**"سيلما" هادي زكاك: مرثية سينمائية لذاكرة طرابلس الضائعة**
بعد رحلة إنتاجية امتدت
لعقد من الزمن، كشف المخرج اللبناني المرموق هادي زكاك عن أحدث أعماله الوثائقية "سيلما"،
وهو عنوان يحمل في طياته نكهة طرابلسية خالصة للفظ كلمة "سينما". لايُقدم الفيلم مجرد استعادة نوستالجية لماضٍ جميل، بل يغوص عميقاً في تاريخ مدينة
طرابلس، عاصمة الشمال وثاني كبرى مدن لبنان، عبر تتبع مصائر صالات العرض السينمائي
التي شكلت يوماً ما شرياناً ثقافياً واجتماعياً نابضاً بالحياة في أرجائها.
![]() |
**"سيلما" هادي زكاك: مرثية سينمائية لذاكرة طرابلس الضائعة** |
من بحث سابق كان قد وثّقه في كتاب بعنوان "العرض الأخير".
يتخذ الفيلم من صالات السينما المهجورة والمتهالكة في طرابلس نقطة ارتكاز ومنطلقاً لسرد حكاية أوسع، حكاية مدينة شهدت ازدهاراً ثقافياً واقتصادياً خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات، حين كانت دور السينما فيها، والتي ناهز عددها الثلاثين.
- مقصداً لجماهير غفيرة من مختلف الشرائح الاجتماعية، متعطشة لسحر الشاشة الكبيرة ولحظات
- المتعة والفرجة الجماعية. كانت تلك الصالات فضاءات ديمقراطية بامتياز، تجمع الناس على اختلاف
- طبقاتهم وانتماءاتهم، وتساهم في تشكيل وعيهم وتوسيع مداركهم.
.jpeg)
لكن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلاً.
يعكس "سيلما" ببراعة كيف بدأت هذه الصالات بالانحسار والذوبان تدريجياً، لتتحول إلى هياكل عظمية وأطلال صامتة تشهد على مجد غابر. يرصد الفيلم بدقة كيف تضافرت عوامل عدة لتؤدي إلى هذا الأفول المأساوي: الحروب المتتالية التي عصفت بلبنان، دوامة العنف والاقتتال الأهلي التي مزقت نسيجهالاجتماعي.
- صعود التيارات المتشددة والتعصب الديني الذي ضيق على الحريات والمساحات الثقافية، وأخيراً
- الانهيار الاقتصادي الذي أجهز على ما تبقى من مظاهر الحياة الطبيعية. لم يكن إغلاق آخر صالة
- سينما في طرابلس عام 2014 مجرد حدث عابر، بل كان إعلاناً رمزياً عن نهاية حقبة بأكملها، وعن
- تحول المدينة، مثلها مثل أجزاء كثيرة من لبنان، إلى غابة إسمنتية تطغى فيها المشاريع التجارية على
- القيم الإنسانية
والثقافية.
فمع إدراكه بأن إعادة الاعتبار
للشاشة لا يمكن أن تتم إلا عبر لغة الشاشة ذاتها، يعتمد المخرج على بناء بصري
شاعري وتأملي. يبرز ذلك جلياً في خياراته الإخراجية الراديكالية، مثل اعتماده على اللقطات
الثابتة الطويلة التي توحي بحالة من الجمود والشلل، وكأنها تعكس انهيار الزمن
وتوقف الحياة في تلك الأماكن المهجورة.
.jpeg)
علاوة على ذلك، يستند الفيلم بشكل أساسي
إلى الذاكرة الشفهية. أمضى زكاك سنوات في جمع وتسجيل شهادات حية لأفراد عاصروا تلك الحقبة الذهبية للسينما في طرابلس، من رواد وموظفين وأصحاب صالات. وفي خيار سردي لافت، نسمع أصوات هؤلاء الشهود تروي ذكرياتها، أحلامها، مخاوفها، وحكاياتها الطريفة أحياناً عن الأفلام والطقوس المرتبطة بالمشاهدة (كتخصص الصالات بأنواع معينة من الأفلام.
- أو حتى تحول بعضها لمنابر سياسية)، لكننا لا نرى وجوههم على الشاشة. هذا الغياب المتعمد
- للشخصيات المتحدثة يمنح الصورة، سواء كانت أرشيفية نادرة أو لقطات معاصرة للأطلال، مكانة
- مركزية، ويترك للمشاهد مساحة للتخيل والتفاعل العاطفي مع الأصوات وصدى الذكريات التي تملأ
- فضاء الصالات الخاوية.
يكشف الفيلم أيضاً عن التوتر المثير للاهتمام بين الذاكرة، التي غالباً ما تكون انتقائية أو تميل إلى تجميل الماضي، وبين الواقع المادي الملموس لتلك الصالات اليوم.
فكما يشير المخرج،
كانت بعض الشهادات لا تتطابق تماماً مع حقيقة المكان عند زيارته، مما يطرح أسئلة حول
طبيعة الذاكرة الفردية والجماعية وكيفية تشكلها.
في نهاية المطاف
يقدم "سيلما" لهادي زكاك أكثر من مجرد رثاء لسينمات طرابلس؛ إنه بورتريه مؤثر لمدينة وناسها، ومرآة تعكس تحولات لبنان العميقة والجذرية خلال نصف القرن الماضي. هو شهادة بصرية وصوتية على أهمية الفضاءات الثقافية في بناء المجتمعات، وعلى الخسارة الفادحة التي يمثلها اندثارها. ومن خلال استحضار أرواح الماضي عبر لغة سينمائية مبتكرة.
ينجح
زكاك في طرح أسئلة جوهرية حول الذاكرة والهوية والمصير في زمن الانهيارات
المتلاحقة، مؤكداً على قوة السينما كأداة لا غنى عنها لحفظ الإرث الثقافي وتأمل
دروس التاريخ.
.jpeg)